قصة وفاة النبى .
جاء يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 11هـ، وهو اليوم الذي شهد أعظم مصيبة في تاريخ البشرية، وأشد كارثة تعرض لها المسلمون، هذا هو اليوم الذي شهد وفاة الرسول .
يقول أنس بن مالك ، كما روى أحمد والدارمي: ما رأيت يومًا قَطُّ كان أحسن، ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله ، وما رأيت يومًا كان أقبح، ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله .
وسبحان الذي ثبت الصحابة في ذلك اليوم، وشتان بين بداية هذا اليوم وبين نهايته، لقد صلى أبو بكر صلاة الصبح بالناس، وكانت هذه هي الصلاة السابعة عشرة التي يصليها بالناس في وجود الرسول ، وفي أثناء هذه الصلاة حدث أمر أسعد المسلمين كثيرًا، وعوضهم عن ألم الأيام السابقة التي مرض فيها الرسول ، وأَتْركُ أنس بن مالك يصف لنا هذا الأمر كما رواه البخاري ومسلم، يقول أنس : كان أبو بكر يصلي بنا في وجع النبي الذي تُوُفِّي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي ستر الحجرة -حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها- ينظر إلينا، وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف. عبارة عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته. ثم تبسم يضحك. سعيد برؤيتهم يصلون مجتمعين وراء أبي بكر. فهممنا أن نفتن من الفرح برؤية النبي .
كادوا يخرجون من الصلاة عندما رأوا النبي من شدة الفرح. فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، ولم يأتِ عليه في الدنيا صلاة أخرى.
ولما ارتقى الضحى من ذلك اليوم دعا رسول الله ابنته فاطمة رضي الله عنها، وتروي السيدة عائشة رضي الله عنها كما جاء في البخاري ومسلم أن أزواج النبي كانوا عنده حين أقبلت فاطمة رضي الله عنها، فلما رآها رسول الله رَحّب قائلاً: "مَرْحبًا بِابْنَتِي".
وهي ابنته الوحيدة المتبقية على قيد الحياة، فقد مات كل أولاده، وكل بناته في حياته .
ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سَارَّهَا، فبكت بكاء شديدًا، فلما رأى حزنها سارَّها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله بالسر من بيننا ثم أنت تبكين؟!
فلما قام رسول الله سألتها: عم سارَّكِ؟
قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله سره.
فلما توفي، قلت لها: عزمت بما لي عليك من الحق لما أخبرتني.
قالت: أما الآن، فنعم.
فأخبرتني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضه به العام مرتين، "ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك".
قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، قال: "يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟".
قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت.
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم أيضًا أنه أسر لها كذلك بأنها أول أهل بيته موتًا بعده .
وقد أضحكها ذلك لأنها ستلقى الأحبة، ستلقى أباها رسول الله ، وتلقى أمها خديجة رضي الله عنها، وتلقى المؤمنين الذين سبقوا، بل وتلقى رب العالمين {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].
ومع ذلك ففاطمة -رضي الله عنها- كانت تشاهد الألم والمعاناة التي يشعر بها الحبيب ، وذلك دفعها كما في رواية البخاري عن أنس ، أن تقول: واكرب أباه. لكن الرسول طمْأَنها قائلاً: "لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ".
وصدق رسول الله ، فكيف يشعر بالكرب من رأى مقعده من الجنة، وهو حي على وجه الأرض، وعموم المؤمنين يرون مقاعدهم من الجنة بعد أن يموتوا، وذلك في قبورهم، ولكن الأنبياء يبشرون بذلك في دنياهم قبل موتهم، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يقول وهو صحيح -أي: وهو في صحته قبل أن يمرض-: "إِنَّه لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ".
أي يخير بين الموت وبين البقاء في الدنيا.
وقد رأى رسول الله مقعده من الجنة، وخُيّر بين الموت والحياة، فاختار لقاء الله ، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فلما نزل به، ورأسه على فخذي، غشي عليه ساعة، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف.
وكأنه يرى مقعده من الجنة، ويعرض عليه التخيير.
ثم قال: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى".
فاختار لقاء الله ، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: إذن لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، وهو صحيح. أي في زمان صحته .
وأخذ الألم يشتد برسول الله ، وقال رسول الله لعائشة رضي الله عنها كما روى البخاري: "مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ".
ويقصد الشاة المسمومة التي أعدها له اليهود، وأخذ منها لقمة ثم لفظها، ثم قال رسول الله : "فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ". والأبهر هو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع مات الإنسان.
والرسول يرجع مرضه وموته إلى أثر السم على عرق الأبهر، ولا يستبعد أن يُبقِي اللهُ ألمَ السم وأثره في جسمه ثلاث سنوات وأكثر؛ حتى يعطي رسولَه مع درجة النبوة درجة الشهادة.
واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته ، وهو يريد أن ينصح أمته حتى آخر أنفاسه، فيروي أحمد وابن ماجه عن أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله حين حضره الموت: "الصَّلاةَ الصَّلاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
حتى جعل رسول الله يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. فهاتان وصيتان عظيمتان منه في وقت حرج للغاية، فهو يوصي بالصلاة، وكذلك يوصي بالرقيق والعبيد، ويجمع بينهما لكي يؤكد على وجوب الإحسان إلى الرقيق.
وفي رواية أبي داود عن علي بن أبي طالب ، يقول علي: كان آخر كلام رسول الله : "الصَّلاةَ الصَّلاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
ثم كانت آخر دقائق في حياة الحبيب ، يروي البخاري أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- كانت تقول: "إن من نِعم الله عليَّ أن رسول الله تُوُفِّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْرِي ونحري".
والسَّحْر هو الرئة أو الصدر، والنحر هو الرقبة، وكان عند الوفاة مُسنِدًا رأسه إلى صدر ورقبة عائشة رضي الله عنها، ثم تكمل عائشة وتقول: "وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته".
ثم تفسر ذلك الكلام وتقول: دخل عبد الرحمن (ابن أبي بكر، وهو أخوها)، وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله ، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أنْ نَعَمْ ( لا يقوى على الكلام )، فتناولته فاشتد عليه (لم يستطع أن يستاك بالسواك الجاف)، وقلت: أليّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فليّنته، فأَمَرّه ( وفي رواية: أنه استنَّ بها كأحسن ما كان مستنًّا)، وبين يديه ركوة -إناء من جلد- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه يقول: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ".
وفي رواية عن الترمذي، والنسائي، وابن ماجه: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ".
سبحان الله! حتى على رسول الله ، حتى على أحب خلق الله إلى الله ، إن للموت سكرات، وعندما فرغ من السواك ورفع يده أو إصبعه، وشخص ببصره نحو السقف، وتحركت شفتاه بكلمات يتمتم بها في صوت خفيض، أصغت عائشة إلى آخر ما يقول من كلمات في حياته، فسمعته يقول: "مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى". ثم مالت يده، وقبضت روحه .
طبت حيًّا وميتًا يا رسول الله !!
مات رسول الله ، إنا لله وإنا إليه راجعون، حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، كل البشر يموتون، ورسول الله بشر، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمر: 30].
وها قد جاءت اللحظة الأليمة، لقد مات رسول الله ، وأظلمت مدينة رسول الله ، لقد نَوّرها رسول الله يوم دخلها، فتحولت من يثرب إلى المدينة المنورة، ولقد أظلمت المدينة نفسها يوم مات الحبيب ، بل لقد أظلمت الدنيا بأسرها، وليس هذا مبالغة فالرسول ليس مجرد رجل عظيم، أو قائد فذّ، أو مفكر عملاق فقدته البشرية، إنما هو في حقيقته الأصيلة آخر رسول من رب العالمين إلى الناس.
لقد قضى الله أن يخاطب عباده ويأمرهم وينهاهم ويوجههم ويهديهم عن طريق إرسال رسل منه إليهم، وعاشت البشرية بهذه الطريقة فترة طويلة من الزمان، ثم شاء الله أن يختم رسالاته إلى الناس برسالة الإسلام، وشاء I أن يجعل آخر المبعوثين منه إلى الخلق هو رسول الله ، والآن مات آخر رسول من رب العالمين، وليس هناك رسل أو رسالات بعده، فأي مصيبة! وأي كارثة.
لا شك أن الفتن ستقبل وتقبل وتقبل بعد وفاته ، وعلى الناس أن يتوقعوا ظلامًا في فترات كثيرة مقبلة، والرسول أخبر عن فتنة من هذا النوع ستأتي على أمته، روى مسلم عن أبي هريرة: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".
بل إن الرسول ربط اشتداد هذه الفتنة بموته ، فقد روى مسلم عن أبي بُرْدَةَ أن رسول الله قال: "النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ".
والمقصود بالوعد هنا هو الفتنة والحروب، كما يقول النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم.
لقد كان موته فتنة حقيقية للأمة الإسلامية، لكن لا شك أن الفتنة كانت أعظم ما يكون عند أصحابه ، فليس من رأى كمن سمع، وليس من عاش وخالط كمن قرأ كتابًا، أو سمع محاضرة، لا شك أن مصيبة الصحابة بفقد رسول الله كانت أعظم وأجَلّ من مصيبة أي مسلم في الحبيب .
لقد اضطرب المسلمون اضطرابًا شديدًا، حتى ذهل بعضهم فلا يستطيع التفكير، وقعد بعضهم لا يستطيع القيام، وسكت بعضهم لا يستطيع الكلام، وأنكر بعضهم لا يستطيع التصديق، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله مات وأبو بكر بالسُّنْح (يعني بالعالية مسكن زوجته، ميل إلى المسجد النبوي)، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله .
يقول ذلك وهو يعتقد بعدم موته تمام الاعتقاد، حتى إنه يقول في رواية أخرى: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك.
أي لا أعتقد إلا أنه لم يمت فعلاً، ثم قال عمر: وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.
وفي رواية يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله تُوُفِّي، إن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات.
كان هذا موقف عمر ، وما أدراك من هو عمر! يقول رسول الله فيما رواه الترمذي، وهو يتحدث عن أصحابه: "أَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ".
هذا هو أثر المصيبة على أشد الصحابة في أمر الله .
ويقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة : "لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ".
هذا هو أثر المصيبة على المُحَدَّث في أمة الإسلام.
انظروا إلى عمر لتعلموا عظم أثر المصيبة على الصحابة .
ظل المسلمون على هذه الحالة يتمنون صدق كلام عمر، حتى جاء الصديق ، ودخل مسرعًا إلى بيت رسول الله ، وبيت ابنته عائشة رضي الله عنها، فوجد رسول الله نائمًا على فراشه، وقد غطوا وجهه، فكشف عن وجهه، وفي لحظة أدرك الحقيقة المرة، لقد مات رسول الله فعلاً، بكى أبو بكر الصديق بكاءً مُرًّا، الرسول كان بالنسبة له كل شيء، لم يكن رسولاً بالنسبة لأبي بكر فقط، ولكنه كان صاحبًا، وموطن سرّ، ومبشرًا، ومطمئنًا، وزوجًا لابنته، ورئيسًا للدولة، وهاديًا لطريقه، ومع ذلك إلا أن الله أنزل على الصّدّيق ثباتًا عجيبًا، ولو لم يكن له من المواقف في الإسلام إلا هذا الموقف لكفَى دليلاً على عظمته، ولكن سبحان الله ما أكثر مواقفه العظيمة!!
لقد أكبَّ أبو بكر الصديق على حبيبه ، فقبَّل جبهته، ثم قال -وهو يضع يديه على صدغي الرسول -: وانبياه، واخليلاه، واصفياه!!
ثم تماسك قائلاً: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها.
ثم أسرع الصديق خارجًا إلى الناس ليسكن من رَوْعهم، وليثبتهم في مصيبتهم، فوجد عمر يقول ما يقول، ويقسم على أن رسول الله لم يمت، فقال: أيها الحالف على رِسْلِك.
وفي رواية قال له: اجلس يا عمر.
لكن عمر لم يكن يسمع شيئًا، فلقد فقد كل قدرة على التفكير، فتركه أبو بكر ، واتجه إلى الناس يخاطبهم، فأقبل الناس عليه، وتركوا عمر، فخطب فيهم خطبته المشهورة الموفَّقة، التي تعتبر -على قصرها- من أهم الخطب في تاريخ البشرية، فقد ثبت الله بها أمة كادت أن تضل، وأوشكت أن تُفتن، قال الصديق في حزم بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ينبه الصديق بفقه عميق على حقيقة الأمر، ويضعه في حجمه الطبيعي، فبرغم عظم المصيبة إلا أنه يجب ألا تخرجكم عن شعوركم وحكمتكم وإيمانكم.
حقيقة الأمر أن رسول الله بشر، وحقيقة الأمر أن البشر جميعًا يموتون، وحقيقة الأمر أننا ما عبدناه لحظة، ولكننا جميعًا عبدنا رب العالمين I، والله حي لا يموت، فلا داعي للاختلاط، ولا داعي للفتنة، ولا داعي للاضطراب، ما حدث كان أمرًا متوقعًا، وربنا الذي يرى ردّ فعلنا حي لا يموت، ويجزينا على صبرنا، ويعاقبنا على جزعنا.
ثم قرأ الصديق في توفيق عجيب آية من آيات سورة آل عمران، تبصر المسلمين بالحقيقة كاملة، وتعرفهم بما يجب عليهم فيها، قرأ الصديق : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية، حتى تلاها أبو بكر -مع أنها نزلت منذ أكثر من سبع سنوات- فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.
لقد أدرك الناس ساعتها أن رسول الله قد مات، لقد أخرجت الآية الكريمة المسلمين من أوهام الأحلام إلى حقيقة الموت، يقول عمر بن الخطاب : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقِرْت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات.
ما تحمل عمر العملاق المصيبة، فسقط مغشيًّا عليه، وارتفع البكاء في كل أنحاء المدينة المنورة.
يقول أبو ذؤيب الهذلي رحمه الله -من التابعين كان مسلمًا على عهد النبي ولم يره-: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج أهلّوا جميعًا بالإحرام، فقلت: مه؟
فقالوا: قبض رسول الله .
وقامت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله كما روى البخاري عن أنس : يا أبتاهْ، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه مَنْ جنة الفردوس مأوه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
وأثرت المصيبة تأثيرًا شديدًا على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تقول كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح: "مات رسول الله بين سحري ونحري، وفي دولتي (أي: يومي) لم أظلم فيه أحدًا، فمن سفهي وحداثة سني -كانت في التاسعة عشرة من عمرها- أن رسول الله قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمتُ ألتدم (أضرب صدري) مع النساء، وأضرب وجهي".
لقد كانت مصيبة أخرجت معظم الحكماء عن حكمتهم، لكن الحمد لله الذي مَنَّ على الأمة بأبي بكر الصديق ، فقد ثبت الله الأمة بكاملها بثباته هو
جاء يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول سنة 11هـ، وهو اليوم الذي شهد أعظم مصيبة في تاريخ البشرية، وأشد كارثة تعرض لها المسلمون، هذا هو اليوم الذي شهد وفاة الرسول .
يقول أنس بن مالك ، كما روى أحمد والدارمي: ما رأيت يومًا قَطُّ كان أحسن، ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله ، وما رأيت يومًا كان أقبح، ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله .
وسبحان الذي ثبت الصحابة في ذلك اليوم، وشتان بين بداية هذا اليوم وبين نهايته، لقد صلى أبو بكر صلاة الصبح بالناس، وكانت هذه هي الصلاة السابعة عشرة التي يصليها بالناس في وجود الرسول ، وفي أثناء هذه الصلاة حدث أمر أسعد المسلمين كثيرًا، وعوضهم عن ألم الأيام السابقة التي مرض فيها الرسول ، وأَتْركُ أنس بن مالك يصف لنا هذا الأمر كما رواه البخاري ومسلم، يقول أنس : كان أبو بكر يصلي بنا في وجع النبي الذي تُوُفِّي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة، فكشف النبي ستر الحجرة -حجرة السيدة عائشة رضي الله عنها- ينظر إلينا، وهو قائم، كأن وجهه ورقة مصحف. عبارة عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته. ثم تبسم يضحك. سعيد برؤيتهم يصلون مجتمعين وراء أبي بكر. فهممنا أن نفتن من الفرح برؤية النبي .
كادوا يخرجون من الصلاة عندما رأوا النبي من شدة الفرح. فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي خارج إلى الصلاة، فأشار إلينا النبي أن أتموا صلاتكم، وأرخى الستر، ولم يأتِ عليه في الدنيا صلاة أخرى.
ولما ارتقى الضحى من ذلك اليوم دعا رسول الله ابنته فاطمة رضي الله عنها، وتروي السيدة عائشة رضي الله عنها كما جاء في البخاري ومسلم أن أزواج النبي كانوا عنده حين أقبلت فاطمة رضي الله عنها، فلما رآها رسول الله رَحّب قائلاً: "مَرْحبًا بِابْنَتِي".
وهي ابنته الوحيدة المتبقية على قيد الحياة، فقد مات كل أولاده، وكل بناته في حياته .
ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سَارَّهَا، فبكت بكاء شديدًا، فلما رأى حزنها سارَّها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصك رسول الله بالسر من بيننا ثم أنت تبكين؟!
فلما قام رسول الله سألتها: عم سارَّكِ؟
قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله سره.
فلما توفي، قلت لها: عزمت بما لي عليك من الحق لما أخبرتني.
قالت: أما الآن، فنعم.
فأخبرتني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضه به العام مرتين، "ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نعم السلف أنا لك".
قالت: فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني الثانية، قال: "يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة؟".
قالت: فضحكت ضحكي الذي رأيت.
وفي رواية أخرى للبخاري ومسلم أيضًا أنه أسر لها كذلك بأنها أول أهل بيته موتًا بعده .
وقد أضحكها ذلك لأنها ستلقى الأحبة، ستلقى أباها رسول الله ، وتلقى أمها خديجة رضي الله عنها، وتلقى المؤمنين الذين سبقوا، بل وتلقى رب العالمين {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23].
ومع ذلك ففاطمة -رضي الله عنها- كانت تشاهد الألم والمعاناة التي يشعر بها الحبيب ، وذلك دفعها كما في رواية البخاري عن أنس ، أن تقول: واكرب أباه. لكن الرسول طمْأَنها قائلاً: "لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ".
وصدق رسول الله ، فكيف يشعر بالكرب من رأى مقعده من الجنة، وهو حي على وجه الأرض، وعموم المؤمنين يرون مقاعدهم من الجنة بعد أن يموتوا، وذلك في قبورهم، ولكن الأنبياء يبشرون بذلك في دنياهم قبل موتهم، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يقول وهو صحيح -أي: وهو في صحته قبل أن يمرض-: "إِنَّه لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، ثُمَّ يُخَيَّرُ".
أي يخير بين الموت وبين البقاء في الدنيا.
وقد رأى رسول الله مقعده من الجنة، وخُيّر بين الموت والحياة، فاختار لقاء الله ، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: فلما نزل به، ورأسه على فخذي، غشي عليه ساعة، ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف.
وكأنه يرى مقعده من الجنة، ويعرض عليه التخيير.
ثم قال: "اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى".
فاختار لقاء الله ، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: إذن لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به، وهو صحيح. أي في زمان صحته .
وأخذ الألم يشتد برسول الله ، وقال رسول الله لعائشة رضي الله عنها كما روى البخاري: "مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ".
ويقصد الشاة المسمومة التي أعدها له اليهود، وأخذ منها لقمة ثم لفظها، ثم قال رسول الله : "فَهَذَا أَوَانُ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ". والأبهر هو عرق متصل بالقلب، إذا انقطع مات الإنسان.
والرسول يرجع مرضه وموته إلى أثر السم على عرق الأبهر، ولا يستبعد أن يُبقِي اللهُ ألمَ السم وأثره في جسمه ثلاث سنوات وأكثر؛ حتى يعطي رسولَه مع درجة النبوة درجة الشهادة.
واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته ، وهو يريد أن ينصح أمته حتى آخر أنفاسه، فيروي أحمد وابن ماجه عن أنس قال: كانت عامة وصية رسول الله حين حضره الموت: "الصَّلاةَ الصَّلاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
حتى جعل رسول الله يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه. فهاتان وصيتان عظيمتان منه في وقت حرج للغاية، فهو يوصي بالصلاة، وكذلك يوصي بالرقيق والعبيد، ويجمع بينهما لكي يؤكد على وجوب الإحسان إلى الرقيق.
وفي رواية أبي داود عن علي بن أبي طالب ، يقول علي: كان آخر كلام رسول الله : "الصَّلاةَ الصَّلاةَ، اتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ".
ثم كانت آخر دقائق في حياة الحبيب ، يروي البخاري أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- كانت تقول: "إن من نِعم الله عليَّ أن رسول الله تُوُفِّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْرِي ونحري".
والسَّحْر هو الرئة أو الصدر، والنحر هو الرقبة، وكان عند الوفاة مُسنِدًا رأسه إلى صدر ورقبة عائشة رضي الله عنها، ثم تكمل عائشة وتقول: "وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته".
ثم تفسر ذلك الكلام وتقول: دخل عبد الرحمن (ابن أبي بكر، وهو أخوها)، وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله ، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أنْ نَعَمْ ( لا يقوى على الكلام )، فتناولته فاشتد عليه (لم يستطع أن يستاك بالسواك الجاف)، وقلت: أليّنه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فليّنته، فأَمَرّه ( وفي رواية: أنه استنَّ بها كأحسن ما كان مستنًّا)، وبين يديه ركوة -إناء من جلد- فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه يقول: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ".
وفي رواية عن الترمذي، والنسائي، وابن ماجه: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى سَكَرَاتِ الْمَوْتِ".
سبحان الله! حتى على رسول الله ، حتى على أحب خلق الله إلى الله ، إن للموت سكرات، وعندما فرغ من السواك ورفع يده أو إصبعه، وشخص ببصره نحو السقف، وتحركت شفتاه بكلمات يتمتم بها في صوت خفيض، أصغت عائشة إلى آخر ما يقول من كلمات في حياته، فسمعته يقول: "مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الأَعْلَى". ثم مالت يده، وقبضت روحه .
طبت حيًّا وميتًا يا رسول الله !!
مات رسول الله ، إنا لله وإنا إليه راجعون، حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، كل البشر يموتون، ورسول الله بشر، قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزُّمر: 30].
وها قد جاءت اللحظة الأليمة، لقد مات رسول الله ، وأظلمت مدينة رسول الله ، لقد نَوّرها رسول الله يوم دخلها، فتحولت من يثرب إلى المدينة المنورة، ولقد أظلمت المدينة نفسها يوم مات الحبيب ، بل لقد أظلمت الدنيا بأسرها، وليس هذا مبالغة فالرسول ليس مجرد رجل عظيم، أو قائد فذّ، أو مفكر عملاق فقدته البشرية، إنما هو في حقيقته الأصيلة آخر رسول من رب العالمين إلى الناس.
لقد قضى الله أن يخاطب عباده ويأمرهم وينهاهم ويوجههم ويهديهم عن طريق إرسال رسل منه إليهم، وعاشت البشرية بهذه الطريقة فترة طويلة من الزمان، ثم شاء الله أن يختم رسالاته إلى الناس برسالة الإسلام، وشاء I أن يجعل آخر المبعوثين منه إلى الخلق هو رسول الله ، والآن مات آخر رسول من رب العالمين، وليس هناك رسل أو رسالات بعده، فأي مصيبة! وأي كارثة.
لا شك أن الفتن ستقبل وتقبل وتقبل بعد وفاته ، وعلى الناس أن يتوقعوا ظلامًا في فترات كثيرة مقبلة، والرسول أخبر عن فتنة من هذا النوع ستأتي على أمته، روى مسلم عن أبي هريرة: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، وَيُمْسِي الرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا".
بل إن الرسول ربط اشتداد هذه الفتنة بموته ، فقد روى مسلم عن أبي بُرْدَةَ أن رسول الله قال: "النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ".
والمقصود بالوعد هنا هو الفتنة والحروب، كما يقول النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم.
لقد كان موته فتنة حقيقية للأمة الإسلامية، لكن لا شك أن الفتنة كانت أعظم ما يكون عند أصحابه ، فليس من رأى كمن سمع، وليس من عاش وخالط كمن قرأ كتابًا، أو سمع محاضرة، لا شك أن مصيبة الصحابة بفقد رسول الله كانت أعظم وأجَلّ من مصيبة أي مسلم في الحبيب .
لقد اضطرب المسلمون اضطرابًا شديدًا، حتى ذهل بعضهم فلا يستطيع التفكير، وقعد بعضهم لا يستطيع القيام، وسكت بعضهم لا يستطيع الكلام، وأنكر بعضهم لا يستطيع التصديق، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله مات وأبو بكر بالسُّنْح (يعني بالعالية مسكن زوجته، ميل إلى المسجد النبوي)، فقام عمر يقول: والله ما مات رسول الله .
يقول ذلك وهو يعتقد بعدم موته تمام الاعتقاد، حتى إنه يقول في رواية أخرى: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك.
أي لا أعتقد إلا أنه لم يمت فعلاً، ثم قال عمر: وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات.
وفي رواية يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله تُوُفِّي، إن رسول الله ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات.
كان هذا موقف عمر ، وما أدراك من هو عمر! يقول رسول الله فيما رواه الترمذي، وهو يتحدث عن أصحابه: "أَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ".
هذا هو أثر المصيبة على أشد الصحابة في أمر الله .
ويقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة : "لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ".
هذا هو أثر المصيبة على المُحَدَّث في أمة الإسلام.
انظروا إلى عمر لتعلموا عظم أثر المصيبة على الصحابة .
ظل المسلمون على هذه الحالة يتمنون صدق كلام عمر، حتى جاء الصديق ، ودخل مسرعًا إلى بيت رسول الله ، وبيت ابنته عائشة رضي الله عنها، فوجد رسول الله نائمًا على فراشه، وقد غطوا وجهه، فكشف عن وجهه، وفي لحظة أدرك الحقيقة المرة، لقد مات رسول الله فعلاً، بكى أبو بكر الصديق بكاءً مُرًّا، الرسول كان بالنسبة له كل شيء، لم يكن رسولاً بالنسبة لأبي بكر فقط، ولكنه كان صاحبًا، وموطن سرّ، ومبشرًا، ومطمئنًا، وزوجًا لابنته، ورئيسًا للدولة، وهاديًا لطريقه، ومع ذلك إلا أن الله أنزل على الصّدّيق ثباتًا عجيبًا، ولو لم يكن له من المواقف في الإسلام إلا هذا الموقف لكفَى دليلاً على عظمته، ولكن سبحان الله ما أكثر مواقفه العظيمة!!
لقد أكبَّ أبو بكر الصديق على حبيبه ، فقبَّل جبهته، ثم قال -وهو يضع يديه على صدغي الرسول -: وانبياه، واخليلاه، واصفياه!!
ثم تماسك قائلاً: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد مُتَّها.
ثم أسرع الصديق خارجًا إلى الناس ليسكن من رَوْعهم، وليثبتهم في مصيبتهم، فوجد عمر يقول ما يقول، ويقسم على أن رسول الله لم يمت، فقال: أيها الحالف على رِسْلِك.
وفي رواية قال له: اجلس يا عمر.
لكن عمر لم يكن يسمع شيئًا، فلقد فقد كل قدرة على التفكير، فتركه أبو بكر ، واتجه إلى الناس يخاطبهم، فأقبل الناس عليه، وتركوا عمر، فخطب فيهم خطبته المشهورة الموفَّقة، التي تعتبر -على قصرها- من أهم الخطب في تاريخ البشرية، فقد ثبت الله بها أمة كادت أن تضل، وأوشكت أن تُفتن، قال الصديق في حزم بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ينبه الصديق بفقه عميق على حقيقة الأمر، ويضعه في حجمه الطبيعي، فبرغم عظم المصيبة إلا أنه يجب ألا تخرجكم عن شعوركم وحكمتكم وإيمانكم.
حقيقة الأمر أن رسول الله بشر، وحقيقة الأمر أن البشر جميعًا يموتون، وحقيقة الأمر أننا ما عبدناه لحظة، ولكننا جميعًا عبدنا رب العالمين I، والله حي لا يموت، فلا داعي للاختلاط، ولا داعي للفتنة، ولا داعي للاضطراب، ما حدث كان أمرًا متوقعًا، وربنا الذي يرى ردّ فعلنا حي لا يموت، ويجزينا على صبرنا، ويعاقبنا على جزعنا.
ثم قرأ الصديق في توفيق عجيب آية من آيات سورة آل عمران، تبصر المسلمين بالحقيقة كاملة، وتعرفهم بما يجب عليهم فيها، قرأ الصديق : {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية، حتى تلاها أبو بكر -مع أنها نزلت منذ أكثر من سبع سنوات- فتلقاها منه الناس كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.
لقد أدرك الناس ساعتها أن رسول الله قد مات، لقد أخرجت الآية الكريمة المسلمين من أوهام الأحلام إلى حقيقة الموت، يقول عمر بن الخطاب : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها، فعُقِرْت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات.
ما تحمل عمر العملاق المصيبة، فسقط مغشيًّا عليه، وارتفع البكاء في كل أنحاء المدينة المنورة.
يقول أبو ذؤيب الهذلي رحمه الله -من التابعين كان مسلمًا على عهد النبي ولم يره-: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج أهلّوا جميعًا بالإحرام، فقلت: مه؟
فقالوا: قبض رسول الله .
وقامت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله كما روى البخاري عن أنس : يا أبتاهْ، أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه مَنْ جنة الفردوس مأوه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه.
وأثرت المصيبة تأثيرًا شديدًا على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تقول كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح: "مات رسول الله بين سحري ونحري، وفي دولتي (أي: يومي) لم أظلم فيه أحدًا، فمن سفهي وحداثة سني -كانت في التاسعة عشرة من عمرها- أن رسول الله قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقمتُ ألتدم (أضرب صدري) مع النساء، وأضرب وجهي".
لقد كانت مصيبة أخرجت معظم الحكماء عن حكمتهم، لكن الحمد لله الذي مَنَّ على الأمة بأبي بكر الصديق ، فقد ثبت الله الأمة بكاملها بثباته هو
0 commentaires: